الأبعاد النفسية للشك بالله
الشك حالة نفسية تتمثل بعدم قدرة العقل على التسليم بصحة مفاهيم معينة مع عدم قدرته على رفضها في الوقت نفسه .لأن العقل يعجز عن تصنيفها كمفاهيم جديرة بالتصديق أو كمفاهيم جديرة بالتكذيب ،كونه يجد فيها ما يخالف منطق تفكيره الشخصي . وفي حالة الشك بوجود الله يكون للنفس دورا ً أساسياً في ترسيخ الشك كونها تميل لرفض المفاهيم الدينية قبل أن يبدأ العقل بمناقشتها لأسباب مختلفة منها أسباب تربوية تتمثل فيها النفس البريئة في مرحلة الطفولة المفاهيم الدينية عبر قدوة سيئة تترافق فيها عملية التعرف على المعتقدات الدينية مع التعرف حالات الظلم أو الكذب أو الرياء أو غير ذلك من الأخلاق السيئة التي ترتبط ارتباطاً شرطياً مع المفاهيم أو الشعائر الدينية من خلال شخصية المربي المكروهة .
و منها أن الطبيعة الثائرة للإنسان في مرحلة المراهقة وهي المرحلة التي تفور فيها الغرائز في الوقت الذي يبدأ فيه العقل بالتعرف على المعتقدات الدينية كما يبدأ فيه بإثبات جدارته في رسم الشخصية الفريدة التي يطمح إليها كل مراهق ، هذه الطبيعة الثائرة الانقلابية تستمر إلى وقت أطول مما يجب فتحول الإنسان في مرحلة النضج العقلي إلى شخص غير مستعد نفسيا ً للإنصات للمفاهيم الدينية عبر كلام الآخرين لأنه ببساطة يرى أنه قد تجاوز مرحلة اتباع ما يتبعه عامة الناس البسطاء غير القادرين على التفكير وغير القادرين على استنباط الحقائق بتفكيرهم الشخصي . فهو في حقيقته ثائر عليهم كونهم ساذجين بسطاء يريحون عقولهم و يسلمون بدون مناقشة وبدون بحث وتمحيص فيتبعون أفكار غيرهم على سبيل التوارث والتقليد ، وبما أنه ثائر عليهم فهو أيضا ثائر على خياراتهم الفكرية الباهتة فهو الإنسان المميز الأذكى والأكثر نضجاً وعلماً قد عاهد نفسه على عدم التسليم الأعمى وعلى عدم الخضوع للأفكار غير المؤكدة ..فمن هنا فهو يرى بعد نضجه العقلي أنه من الحكمة عدم الدخول مع هؤلاء في المناقشات والمهاترات ..لماذا ؟ لأن أحداً من هؤلاء الناس البسطاء لن يتمكن من فهم وجهة نظره إنهم يدافعون عن وجهة نظرهم بحماس وسيحاولون إثبات أنهم على حق وأنه مخطئ ..لديهم حجج محفوظة بالقوالب ...يحفظونها لوقت الحاجة في حين يقضون أوقاتهم في التفكير السطحي والساذج ..إنهم ليسوا مؤهلين حقاً للحوار ..وأفضل طريقة للتخلص من إزعاجهم هي عدم الالتفات إليهم و إلى ما يطرحونه من حجج باهتة مقولبة ..وبدلاً من ذلك الالتفاف عليهم بإرضائهم (بأخذهم على قدر عقولهم البسيطة ) للكف عن التدخل في الشؤون العقلية لغيرهم التي لا يمتلكون قدرة فهمها .
و منها أن تلك المفاهيم الدينية تبدو غير عادلة أو غير حكيمة أو غير موافقة للرغبة الشخصية من حيث تقييم الأفضل أو الألذ .
ومن أهم أسباب الرفض للمفاهيم الدينية في حالة الشك أن الخطاب الديني العام يعتمد أساساً على آليتي التخويف والترغيب لاستقطاب وجذب الاهتمام وهما آليتان عامتان ترفض الشخصية المتضخمة نفسياً الإذعان لهما .على الرغم من أنهما تثيران خوفاً مبهما ً نتيجة التهديد والوعيد .
في النتيجة يسقط العقل في مأزق يشبه حالة من العقم لا يستطيع فيها أن يأخذ فيتقبل ولا أن يعطي فيثمر .لا يسلم بالحقيقة ولا يستطيع إثبات عكسها .
ولأن العقل يتجه بالاتجاه الذي تستهويه النفس فإنه سيسعى لتلبية حاجاتها وإشباع دوافعها ومن أهم هذه الدوافع هو الأمان النفسي ، فيحاول العقل سلوك الاتجاهات التي تمده بالدعم المنطقي والتأييد الفكري ليعتمد على قوته الذاتية في اكتساب الدعم ..فيحصل العقل بمجرد التفكير المنطقي السببي على سلاسل فكرية متعاقبة ومتماسكة تؤكد قوة العقل وقدرته على الاستنباط والاستقراء والاستنتاج ..إلخ . فتستخدم النفس هذ الدعم المتمثل بالقدرة الذاتية للعقل لإشباع دافع الأمان النفسي الذي أثارته التهديدات المتضمنة في الخطاب الديني .
لكن ما قام به العقل حقيقة لا يعدو عملية تعويض مؤقتة غير مستقرة حاول فيها إشباع دافع الأمان النفسي بحافز غير مناسب لأنه غير أصلي هو (الإيمان بقدرة العقل ) بدلا ً من الحافز الحقيقي الأصلي الذي يحقق الإشباع فعلا ً وهو ( الإيمان برحمة الله ) فتكون النتيجة أن الإشباع بالحافز غير المناسب يكون إشباعاً غير مستقر وغير دائم فيكون معرضاً للقلق والانتكاس لأدنى تهديد، مما يضعف النفس ويجعلها مرهفة ومتوترة ..فإن استمر العقل بعمليات التعويض المماثلة فقد تعطلت أهم خصائصه وهي القدرة على التمييز بين الخطأ والصواب أو الحق والضلال.
فإن كان الشك مرحلة مؤقتة للعقل واستطاع أن يثير القلق في نفس الإنسان حيال هذا الوضع المضطرب فسوف يدفع بالعقل لمزيد من البحث ومحاولة التحقق من تلك المفاهيم مع الاستعداد الكامل للإذعان للحقيقة مهما كان شكلها وحتى لو كانت تخالف هواه ..فعند ذلك يصبح الشك شرفاً للعقل لأنه سيؤدي به في نهاية المطاف إلى اليقين. والشرف فيه أن العقل توصل إلى اليقين ببحثه وعقله وليس بالتقليد الأعمى لمن يدافع عن تلك المفاهيم مهما كان نوعها .