سطوة اللغة
لأن اللغة تفرض قراراتها علينا، فهي تستحث منا استجابات محددة، استجابات مكررة تم انتاجها بالخبرات السابقة، فهي مقيدة بالشروط القديمة وهي خالية من الحرية التي تتيح الإبداع الآني،وهكذا تبدو قسرية بكونها متوقعة في تأثيرها وفي ردود الأفعال تجاهها،وتبدو مغلقة بكونها مقولبة جاهزة وصالحة للجميع في آن واحد، وهكذا لا يبدو من حيويتها سوى ابتعاثها كنمط مطلوب يتم استدعاؤه عند الحاجة للتحكم بالعباد.
هذه هي سمات اللغة المتداولة كلغة مسبقة الدفع.اللغة الاجتماعية العامة التي تستلزم الاتفاق على المعنى والاحتكام إليه.إن سر الاتفاق الاجتماعي في اللغة يحولها إلى قوة جارفة تحفر في العقل المفرد حفراً نظام التفكير الفردي المتسق مع القرار الجماعي.فليست المفردات المفروضة علينا إلا قرارات عامة تم تكليفنا بالالتزام بها .
وهكذا ترانا نتعلم ونتوارث الالتزام بالقرارات المهيمنة بطريقة خضوعية يتعود فيها إدراكنا على تمرير القرارات المفروضة تمريرا آلياً. ولذا تتحكم بنا الظواهر اللغوية العامة تحكماً عميقاً عندما نشعر بالأمان تجاهها فنسلمها وعينا ونضع استجابتنا العاطفية رهن إشارتها. أو عندما نخشاها فنتهرب من مواجهتها ونبادر بمهاجمتها كإحدى آلياتنا للدفاع.
إن خطر الموافقة على التسمية الاصطلاحية العامة ينقلنا من عبء اختلاق المفردة الشخصية أو (الاسم الذاتي ) إلى عبء تحمل التبعات المعنوية للاسم العام (المصطلح ). فالتسليم للاسم العام يعني في النتيجة أننا مرتهنون له .ومن هنا يتم تحديد نمط ارتباطنا بالاسم ارتباطاً عاطفياً كهربائياً .وهكذا تتمكن مصطلحات عامة مشحونة بالمخاوف (كالإرهاب والسلفية والإباحية والعلمانية و...إلخ ) من إثارة بغضنا تجاهها حتى قبل أن نرغب بمعرفة أسوأ أو أحسن احتمالاتها المعنوية ...
إن العقل البشري انطباعي ذاتي بطبيعته .وإنه للأسف ليس صاحب القرار الأول في الاختيار بين خيارين أحدهما يشكل تهديدا عاجلاً للحاجات الآنية الملحة .بل القرار الأول في الاختيار يعود للعاطفة التي تأتمر بأمر الحاجات الآنية الملحة والدوافع الغريزية المثارة ،ثم يأتي دور العقل في مرحلة متأخرة بعد الوصول إلى الإشباع الآني المقبول للحاجات غير المشبعة .وخلال السعي للإشباع المقبول لا يتوقع من العقل إلا تسخير طاقته كاملة للتعجيل من تحقيق ذلك الإشباع .وهكذا يسير الإشباع باتجاه واحد فقط ، هو اتجاه الاعتدال الكهربائي بكسب الشحنات التي تؤمن الاعتدال. فما كان من مفهوم يبعث الخوف فالعقل يسعى لنبذه ورفضه باستحضار المفهوم المضاد له وهو الذي يبعث الطمأنينة والأمان . وقبل أن يتم التأكد من أن مفهوماً ما قد يبعث الخوف وبمجرد توهم ذلك عبر الانطباع السريع ، يبدأ العقل بعملياته الدفاعية التي تمثل الصد السريع للمفهوم . وهكذا نرى أن معظم مخاوفنا في الواقع تبقى مخاوف لأنها لم تأخذ حظها من المناقشة العقلية الهادئة .إن تلك المناقشة تتطلب التنصل من اللغة الاجتماعية العامة والاحتكام إلى اللغة( الحقائقية )التي تُطَلب لذاتها لأنها تجرد المفردات من شحناتها الكهربائية المؤثرة في العاطفة ....يتبع بإذن الله